القطاع الصحي في دولة الإمارات
شهدت العقود الأربعة الأخيرة إنجازات هائلة لقطاع الخدمات الصحية في دولة الإمارات، وفي نفس الوقت واجه هذا القطاع قائمة متزايدة من التحديات الصحية الجديدة على المجتمع المحلي. هذه الحقيقة اتضحت يوم السبت الماضي، مع تصريح رئيس اللجنة الوطنية العليا للتحصين، بعزم اللجنة أثناء اجتماعها أمس الأحد في دبي، على مناقشة تقرير وتوصيات اللجنة الإقليمية بشأن خلو الدولة من مرض شلل الأطفال. ويأتي هذا الإنجاز بعد فترة ليست بالطويلة، من إعلان منظمة الصحة العالمية عن خلو دولة الإمارات من مرض الملاريا، لتكون بذلك هي الدولة الأولى في منطقة الشرق الأوسط التي نجحت في تحقيق هذا الإنجاز. ويبدو بشكل واضح أيضاً، أن عجلة التطور والتقدم في هذا القطاع الحيوي، لن تتوقف أو يتباطأ دورانها في أي وقت قريب. ففي نفس اليوم أعلن وزير الصحة أن الربط الإلكتروني بين المناطق المختلفة بالدولة، وصل حالياً إلى مراحله النهائية، وستبدأ خطواته التنفيذية الشهر الجاري، وهي علامة مهمة على طريق رفع مستوى الخدمات الطبية في أنحاء الدولة، وزيادة الفعالية وكفاءة التشغيل بين المستشفيات والعيادات وبقية أجزاء الشبكة الصحية. ويجرى أيضاً العمل على قدم وساق في العديد من المبادرات الصحية الأخرى، مثل مراكز الإخصاب التي أخذت دورها التشريعي والقانوني وتنتظر حالياً صدور المرسوم الخاص بها، ومشروع زراعة الأعضاء الذي يحيط به الكثير من المعضلات القانونية والدينية والأخلاقية.
هذان المشروعان الأخيران، يظهران جانباً خاصاً من التحديات التي أصبحت تواجه المجتمع الطبي حالياً في الدولة. فبخلاف غياب القدرة الفنية والبشرية، يظل فقدان التطور القانوني والتشريعي، إحدى أهم العقبات أمام محاولات اللحاق بما يمكن للطب الحديث أن يقدمه للمرضى. وهو ما اتضح من خلال المناقشات التي دارت ضمن فعاليات ندوة الميثاق الإسلامي العالمي للأخلاقيات الطبية والصحية، التي عقدت برعاية اللجنة الوطنية لأخلاقيات الرعاية الصحية نهاية الشهر الماضي. وقبل ذلك في شهر نوفمبر، تسلمت لجنة الشؤون الصحية في أمانة المجلس الوطني مشروع قانون اتحادي، بشأن المسؤولية الطبية، للبدء في مناقشته قبل عرضه على المجلس في دور انعقاده الثاني في الفصل التشريعي الرابع. ورغم أن عنوان هذا القانون هو المسؤولية الطبية، إلا أنه يتعامل في الكثير من بنوده مع القضايا الأخلاقية والجوانب الاجتماعية للاختراقات الطبية والعلمية، التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من أي نظام رعاية صحية متطور يسعى لتقديم الأفضل والأحدث لأفراد المجتمع. وهو ما يفرض على المشرِّع ضرورة موازاة التطورات الطبية، أو على الأقل بذل الجهد للحاق بها.
الجانب الآخر من التحديات التي أصبحت تواجه المجتمع الطبي، اتضحت من الأسئلة التي وجهها مؤخراً أعضاء المجلس الوطني الاتحادي لوزير الصحة، ويتوقع أن يجيب عليها أثناء انعقاد المجلس غداً الثلاثاء. السؤال الأول يتعلق بقضية ارتفاع معدلات أمراض السكر والسرطان والقلب، وبالتحديد الأسباب التي أدت إلى زيادة نسب انتشار تلك الأمراض لتسجل أرقاماً قياسية. حيث تشير البيانات الطبية إلى ارتفاع نسبة انتشار مرض السكري إلى أكثر من 20% بين مواطني الإمارات، فيما تعتبر أمراض القلب والأوعية الدموية السبِب الرئيسي الثاني للوفيات في الدولة. وإجابة هذا السؤال، أو الجزء الخاص منه بالأسباب، تتعلق بما يعرف طبياً بأمراض نوعية أو نمط الحياة. فليس بغائب على أحد، أن المجتمع الإماراتي شهد تغيراً جذرياً في نوعية الحياة خلال العقود القليلة الماضية، على صعيد كمية ونوعية الغذاء، ومن ناحية حجم المجهود البدني اليومي، وانتشار العادات الصحية السلبية، مثل التدخين وخلافه. وهذا الوضع لا يخص الإمارات بالتحديد، ففي الوقت الذي تحتل أمراض القلب والشرايين المرتبة الثانية في عدد الوفيات في الدولة بعد حوادث الطرق، نجد أن نفس هذه الأمراض تحتل رأس قائمة أسباب الوفيات حول العالم، وخصوصاً الدول الغنية. وهو ما ينطبق أيضاً على السكري، وعلى بعض الأمراض السرطانية، التي أصبح مؤكداً علاقتها بنوعية الغذاء، وبالعادات الصحية السلبية الأخرى. بالإضافة إلى أن التطور الهائل الذي شهدته الرعاية الصحية في الدولة خلال العقود الماضية، شكل سبباً (نسبياً) في زيادة عدد الحالات. فمع تطور الخدمات الصحية واتساع نطاقها الجغرافي، ازدادت الحالات التي يتم تشخيصها بنجاح، لتضاف لاحقاً إلى إحصائيات انتشار تلك الأمراض.
السؤال الآخر الذي وجه لوزير الصحة، يتعلق بتهديد خاص للأمن الصحي في الدولة، ويتمثل في احتمالات انتقال الأمراض المعدية مع العمالة الوافدة. هذا التهديد حقيقي وخطير بالفعل، ولكنه لا يقتصر على الدولة فقط، بل يشمل جميع دول العالم، في ظل السهولة الحالية للسفر والانتقال بين الدول والقارات. وبالطبع تتميز دولة الإمارات، مثلها مثل الدول الأخرى المستقطبة لأعداد كبيرة من العمالة المؤقتة، بوضع خاص، يجعلها أكثر عرضة لهذا النوع من التحدي الصحي. ولكن إذا ما كان التاريخ دليلاً، فقد نجحت السلطات الصحية في الدولة في حماية سكانها من هذا الخطر إلى حد كبير. ويكفي أن نذكر أن الإمارات لم تشهد حالة واحدة من أنفلونزا الطيور، أو "السارس"، ولا زال عدد حالات الأيدز بها منخفضاً جداً بالمعايير الدولية. وللأسف لا تتوفر لي إحصائيات محددة، عن خطر ميكروب السل الرئوي المقاوم للعقاقير، الذي يؤرق العديد من الجهات الصحية الرسمية حول العالم. وهو ما يجعل الصورة الصحية في الدولة، مزيجاً من الإنجازات المتلاحقة، المكتنفة بالعديد من التحديات الخاصة والخطيرة، والتي تتطلب مواجهتها يقظة دائمة وفعالية خاصة في التنفيذ والأداء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق